فصل: باب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالْأَدَبِ فِي ذَلِكَ

مساءً 6 :46
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
26
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع‏)‏ كأنه أراد الرد على من حصر الخيار في المشتري دون البائع فإن الحديث قد سوى بينهما في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل بيعين‏)‏ بتشديد التحتانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا بيع بينهما‏)‏ أي لازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يتفرقا‏)‏ أي فيلزم البيع حينئذ بالتفرق‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏إلا بيع الخيار‏)‏ أي فيلزم باشتراطه كما تقدم البحث فيه، وظاهره حصر لزوم البيع في التفرق أو في شرط الخيار، والمعنى أن البيع عقد جائز فإذا وجد أحد هذين الأمرين كان لازما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا قَالَ هَمَّامٌ وَجَدْتُ فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا قَالَ وَحَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ هو ابن منصور، وحبان هو ابن هلال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يتفرقا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ما لم يتفرقا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قام همام‏:‏ وجدت في كتابي يختار ثلاث مرار‏)‏ أشار أبو داود إلى أن هماما تفرد بذلك عن أصحاب قتادة، ووقع عند أحمد عن عفان عن همام قال ‏"‏ وجدت في كتابي الخيار ثلاث مرار ‏"‏ ولم يصرح همام بمن حدثه بهذه الزيادة فإن ثبتت فهي على سبيل الاختيار‏.‏

وقد أخرجه الإسماعيلي وجه آخر عن حبان بن هلال فذكر هذه الزيادة في آخر الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثنا همام‏)‏ القائل هو حبان بن هلال المذكور، وقد تقدم قبل بابين من وجه آخر عن همام‏.‏

قال الكرماني‏:‏ القائل هو حبان، فإن قيل لم قال ‏"‏ حدثنا ‏"‏ وقال قبل ذلك ‏"‏ قال همام ‏"‏ فالجواب أنه حيث قال‏:‏ قال كان سمع ذلك في المذاكرة وحيث قال حدثنا سمع منه في مقام التحديث ا هـ‏.‏

وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أنه حيث ساقه بالإسناد عبر بقوله حدثنا، وحيث ذكر كلام همام عبر عنه بقوله قال‏.‏

*3*باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ

وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر البائع على المشتري‏)‏ أي هل ينقطع خياره بذلك‏؟‏ قال ابن المنير‏:‏ أراد البخاري إثبات خيار المجلس بحديث ابن عمر ثاني حديثي الباب، وفيه قصته مع عثمان وهو بين في ذلك، ثم خشي أن يعترض عليه بحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب لأن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في البكر بنفس تمام العقد فأسلف الجواب عن ذلك في الترجمة بقوله ‏"‏ ولم ينكر البائع ‏"‏ يعني أن الهبة المذكورة إنما تمت بإمضاء البائع وهو سكوته المنزل منزلة قوله‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ هذا تعسف من البخاري، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه وهب ما فيه لأحد خيار ولا إنكار لأنه إنما بعث مبينا ا هـ‏.‏

وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بالأحاديث السابقة المصرحة بخيار المجلس، والجمع بين الحديثين ممكن بأن يكون بعد العقد فارق عمر بأن تقدمه أو تأخر عنه مثلا ثم وهب، وليس في الحديث ما يثبت ذلك ولا ما بنفيه فلا معنى للاحتجاج بهذه الواقعة العينية في إبطال ما دلت عليه الأحاديث الصريحة من إثبات خيار المجلس فإنها إن كانت متقدمة على حديث ‏"‏ البيعان بالخيار ‏"‏ فحديث البيعان قاض عليها، وإن كانت متأخرة عنه حمل على أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالبيان السابق، واستفيد منه أن المشتري إذا تصرف في المبيع ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعا لخيار البائع كما فهمه البخاري والله أعلم‏.‏

وقال ابن بطال أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز، واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض‏:‏ فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام دون اشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث حجة عليهم ا هـ‏.‏

وليس الأمر على ما ذكره من الإطلاق، بل فرقوا بين المبيعات‏:‏ فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه كما سيأتي، واختلفوا فيما عدا الطعام على مذاهب‏:‏ أحدها‏:‏ لا يجوز بيع شيء قبل قبضه مطلقا وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن، ثانيها‏:‏ يجوز مطلقا إلا الدور والأرض وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ثالثها‏:‏ يجوز مطلقا إلا المكيل والموزون وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، رابعها‏:‏ يجوز مطلقا إلا المأكول والمشروب وهو قول مالك وأبي ثور واختيار ابن المنذر، واختلفوا في الإعتاق فالجمهور على أنه يصح الإعتاق ويصير قبضا سواء كان للبائع حق الحبس بأن كان الثمن حالا ولم يدفع أم لا، والأصح في الوقف أيضا صحته، وفي الهبة والرهن خلاف، والأصح عند الشافعية فهما أنهما لا يصحان، وحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب حجة لمقابله، ويمكن الجواب عنه بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلا في القبض قبل الهبة وهو اختيار البغوي قال‏:‏ إذا أذن المشتري للموهوب له في قبض المبيع كفى وتم البيع وحصلت الهبة بعده، لكن لا يلزم من هذا اتحاد القابض والمقبض لأن ابن عمر كان راكب البعير حينئذ وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية، وإليه مال البخاري كما تقدم له في ‏"‏ باب شراء الدواب والحمر ‏"‏ إذا اشترى دابة وهو عليها هل يكون ذلك قبضا‏؟‏ وعند الشافعية والحنابلة تكفي التخلية في الدور والأراضي وما أشبهها دون المنقولات، ولذلك لم يجزم البخاري بالحكم بل أورد الترجمة مورد الاستفهام‏.‏

وقال ابن قدامة ليس في الحديث تصريح بالبيع، فيحتمل أن يكون قول عمر ‏"‏ هو لك ‏"‏ أي هبة، وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا‏.‏

قلت‏:‏ وفيه غفلة عن قوله في حديث الباب ‏"‏ فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري ‏"‏ فاشتراه ‏"‏ وسيأتي في الهبة، فعلى هذا فهو بيع، وكون الثمن لم يذكر لا يلزم أن يكون هبة مع التصريح بالشراء، وكما لم يذكر الثمن يحتمل أن يكون القبض المشترط وقع وإن لم ينقل، قال المحب الطبري‏:‏ يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ساقه بعد العقد كما ساقه أولا، وسوقه قبض له لأن قبض كل شيء بحسبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو اشترى عبدا فأعتقه‏)‏ جعل المصنف مسألة الهبة أصلا ألحق بها مسألة العتق لوجود النص في مسألة الهبة دون العتق، والشافعية نظروا إلى المعنى في أن للعتق قوة وسراية ليست لغيره، ومن ألحق به منهم الهبة قال إن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض فكذلك الهبة والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال طاوس فيمن يشتري السلعة على الرضا ثم باعها وجبت له والربح له‏)‏ وصله سعيد ابن منصور وعبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبيه نحوه، وزاد عبد الرزاق ‏"‏ وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين إذا بعت شيئا على الرضا فإن الخيار لهما حتى يتفرقا عن رضا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بِعْنِيهِ قَالَ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحميدي‏)‏ في رواية ابن عساكر بإسناد البخاري ‏"‏ قال لنا الحميدي ‏"‏ وجزم الإسماعيلي وأبو نعيم بأنه علقه، وقد رويناه أيضا موصولا في ‏"‏ مسند الحميدي ‏"‏ وفي ‏"‏ مستخرج الإسماعيلي ‏"‏ وسيأتي من وجه آخر عن سفيان في الهبة موصولا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في سفر‏)‏ لم أقف على تعيينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على بكر‏)‏ بفتح الموحدة وسكون الكاف‏:‏ ولد الناقة أول ما يركب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صعب‏)‏ أي نفور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فباعه‏)‏ زاد في الهبة ‏"‏ فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت ‏"‏ وفي هذا الحديث ما كان الصحابة عليه من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يتقدموه في المشي، وفيه جواز زجر الدواب، وإنه لا يشترط في البيع عرض صاحب السلعة بسلعته بل يجوز أن يسأل في بيعها، وجواز التصرف في المبيع قبل بدل الثمن‏.‏

ومراعاة النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الصحابة وحرصه على ما يدخل عليهم السرور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث‏)‏ وصله الإسماعيلي من طريق ابن زنجويه والرمادي وغيرهما، وأبو نعيم من طريق يعقوب بن سفيان كلهم عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث به، وذكر البيهقي أن يحيى بن بكير رواه عن الليث عن يونس عن الزهري نحوه، وليس ذلك بعلة فقد ذكر الإسماعيلي أيضا أن أبا صالح رواه عن الليث كذلك فوضح أن الليث فيه شيخين، وقد أخرجه الإسماعيلي أيضا من طريق أيوب عن سويد عن يونس عن الزهري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعت من أمير المؤمنين عثمان بن عفان مالا‏)‏ أي أرضا أو عقارا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالوادي‏)‏ يعني وادي القرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما تبايعا رجعت على عقبي‏)‏ في رواية أيوب بن سويد ‏"‏ فطفقت أنكص على عقبي القهقرى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرادني‏)‏ بتشديد الدال أصله يراددني أي يطلب مني استرداده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا‏)‏ يعني أن هذا هو السبب في خروجه من بيت عثمان، وأنه فعل ذلك ليجب له البيع ولا يبقى لعثمان خيار في فسخه‏.‏

واستدل ابن بطال بقوله ‏"‏ وكانت السنة ‏"‏ على أن ذلك كان في أول الأمر، فأما في الزمن الذي فعل ابن عمر ذلك فكان التفرق بالأبدان متروكا فلذلك فعله ابن عمر لأنه كان شديد الاتباع، هكذا قال، وليس في قوله ‏"‏ وكانت السنة ‏"‏ ما ينفي استمرارها‏.‏

وقد وقع في رواية أيوب بن سويد ‏"‏ كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفترق المتبايعان، فتبايعت أنا وعثمان ‏"‏ فذكر القصة وفيها إشعار باستمرار ذلك، وأغرب ابن رشد في ‏"‏ المقدمات ‏"‏ له فزعم أن عثمان قال لابن عمر ‏"‏ ليست السنة بافتراق الأبدان، قد انتسخ ذلك ‏"‏ وهذه الزيادة لم أر لها إسنادا، ولو صحت لم تخرج المسألة على الخلاف لأن أكثر الصحابة قد نقل عنهم القول بأن الافتراق بالأبدان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال‏)‏ أي زدت المسافة التي بينه وبين أرضه التي صارت إليه على المسافة التي كانت بينه وبين أرضه التي باعها بثلاث ليال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وساقني إلى المدينة بثلاث ليال‏)‏ يعني أنه نقص المسافة التي بيني وبين أرضي التي أخذ بها عن المسافة التي كانت بيني وبين أرضي التي بعتها بثلاث ليال، وإنما قال إلى المدينة لأنهما جميعا كانا بها فرأى ابن عمر الغبطة في القرب من المدينة فلذلك قال ‏"‏ رأيت أني قد غبنته ‏"‏ وفي هذه القصة جواز بيع العين الغائبة على الصفة، وسيأتي نقل الخلاف فيها في ‏"‏ باب بيع الملامسة ‏"‏ وجواز التحيل في إبطال الخيار، وتقديم المرء مصلحة نفسه على مصلحة غيره، وفيه جواز بيع الأرض بالأرض، وفيه أن الغبن لا يرد به البيع‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يكره من الخداع في البيع‏)‏ كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن الخداع في البيع مكروه ولكنه لا يفسخ البيع، إلا أن شرط المشتري الخيار على ما تشعر به القصة المذكورة في الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ في رواية أحمد من طريق محمد بن إسحاق ‏"‏ حدثني نافع عن ابن عمر، كان رجل من الأنصار ‏"‏ زاد ابن الجارود في ‏"‏ المنتقى ‏"‏ من طريق سفيان عن نافع أنه حبان بن منقذ، وهو بفتح المهملة والموحدة الثقيلة، ورواه الدار قطني من طريق عبد الأعلى والبيهقي من طريق يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق به وزاد فيه ‏"‏ قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال هو جدي منقذ بن عمرو ‏"‏ وكذلك رواه ابن منده من وجه آخر عن ابن إسحاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغبن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه يخدع في البيوع‏)‏ بين ابن إسحاق في روايته المذكورة سبب شكواه وهو ما يلقى من الغبن، وقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث أنس بلفظ ‏"‏ إن رجلا كان يباع، وكان في عقدته ضعف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا خلابة‏)‏ بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة و ‏"‏ لا ‏"‏ لنفي الجنس أي لا خديعة في الدين لأن الدين النصيحة، زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه ‏"‏ ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فأردد ‏"‏ فبقي حتى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع به فيشهد له الرجل من الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثا فيرد له دراهمه‏.‏

قال العلماء‏:‏ لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيرى له كما يرى لنفسه، لما تقرر من حض المتبايعين على أداء النصيحة كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام ‏"‏ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ‏"‏ الحديث‏.‏

واستدل بهذا الحديث لأحمد واحد قولي مالك أنه يرد بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل له الخيار لضعف عقله ولو كان الغبن يملك به الفسخ لما احتاج إلى شرط الخيار‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ يحتمل أن الخديعة في قصة هذا الرجل كانت في العيب أو في الكذب أو في الثمن أو في الغبن فلا يحتج بها في مسألة الغبن بخصوصها، وليست قصة عامة وإنما هي خاصة في واقعة عين فيحتج بها في حق من كان بصفة الرجل قال‏:‏ وأما ما روي عن عمر أنه كلم في البيع فقال‏:‏ ما أجد لكم شيئا أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ ثلاثة أيام، فمداره علي ابن لهيعة وهو ضعيف انتهى، وهو كما قال أخرجه الطبراني والدار قطني وغيرهما من طريقه، لكن الاحتمالات التي ذكرها قد تعينت بالرواية التي صرح بها بأنه كان يغبن في البيوع، واستدل به على أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام من غير زيادة لأنه حكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه، ويؤيده جعل الخيار في المصراة ثلاثة أيام، واعتبار الثلاث في غير موضع، وأغرب بعض المالكية فقال إنما قصره على ثلاث لأن معظم بيعه كان في الرقيق، وهذا يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال، واستدل به على أن من قال عند العقد ‏"‏ لا خلابة ‏"‏ أنه يصير في تلك الصفقة بالخيار سواء وجد فيه عيبا أو غبنا أم لا، وبالغ ابن حزم في جموده فقال‏:‏ لو قال لا خديعة أو لا غش أو ما أشبه ذلك لم يكن له الخيار حتى يقول لا خلابة‏.‏

ومن أسهل ما يرد به عليه أنه ثبت في صحيح مسلم أنه كان يقول ‏"‏ لا خيابة ‏"‏ بالتحتانية بدل اللام وبالذال المعجمة بدل اللام أيضا وكأنه كان لا يفصح باللام للثغة لسانه ومع ذلك لم يتغير الحكم في حقه عند أحد من الصحابة الذين كانوا يشهدون له بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار فدل على أنهم اكتفوا في ذلك بالمعنى، واستدل به على أن الكبير لا يحجر عليه ولو تبين سفهه لما في بعض طرق حديث أنس أن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله احجر عليه، فدعاه فنهاه عن البيع فقال لا أصبر عنه فقال ‏"‏ إذا بايعت فقل لا خلابة ‏"‏ وتعقب بأنه لو كان الحجر على الكبير لا يصح لأنكر عليهم، وأما كونه لم يحجر عليه فلا يدل على منع الحجر على السفيه‏.‏

واستدل به على جواز البيع بشرط الخيار وعلى جواز شرط الخيار للمشتري وحده، وفيه ما كان أهل ذلك العصر عليه من الرجوع إلى الحق وقبول خبر الواحد في الحقوق وغيرها‏.‏

*3*باب مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْوَاقِ

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعَ وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ وَقَالَ عُمَرُ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما ذكر في الأسواق‏)‏ قال ابن بطال أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأسواق للأشراف والفضلاء وكأنه أشار إلى ما لم يثبت على شرطه من أنها شر البقاع وهو حديث أخرجه أحمد والبزار وصححه الحاكم من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق ‏"‏ وإسناده حسن، وأخرجه ابن حبان والحاكم أيضا من حديث ابن عمر نحوه، قال ابن بطال‏:‏ وهذا خرج على الغالب وإلا فرب سوق يذكر فيها الله أكثر من كثير من المساجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرحمن بن عوف الخ‏)‏ تقدم موصولا في أوائل البيوع، والغرض منه هنا ذكر السوق فقط وكونه كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتعاهده الفضلاء من الصحابة لتحصيل المعاش للكفاف وللتعفف عن الناس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أنس قال عبد الرحمن بن عوف‏)‏ تقدم أيضا موصولا هناك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عمر‏:‏ ألهاني الصفق بالأسواق‏)‏ تقدم موصولا أيضا هناك في أثناء حديث أبي موسى الأشعري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن سوقة‏)‏ بضم المهملة وسكون الواو بعدها قاف كوفي ثقة عابد يكنى أبا بكر من صغار التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في العيدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن نافع بن جبير‏)‏ أي ابن مطعم النوفلي وليس له في البخاري عن عائشة سوى هذا الحديث، ووقع في رواية محمد بن بكار عن إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقه ‏"‏ سمعت نافع بن جبير ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثتني عائشة‏)‏ هكذا قال إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقة، وخالفه سفيان بن عيينة فقال ‏"‏ عن محمد بن سوقة عن نافع بن جبير عن أم سلمة ‏"‏ أخرجه الترمذي، ويحتمل أن يكون نافع ابن جبير سمعه منهما فإن روايته عن عائشة أتم من روايته عن أم سلمة، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عائشة، وروي من حديث حفصة شيئا منه، وروى الترمذي من حديث صفية نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يغزو جيش الكعبة‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ عبث النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقلنا له صنعت شيئا لم تكن تفعله، قال‏:‏ العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش ‏"‏ وزاد في رواية أخرى أن أم سلمة قالت ذلك زمن ابن الزبير، وفي أخرى أن عبد الله بن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة قال‏:‏ والله ما هو هذا الجيش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ببيداء من الأرض‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ بالبيداء ‏"‏ وفي حديث صفية على الشك‏.‏

وفي رواية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال‏:‏ هي بيداء المدينة‏.‏

انتهى‏.‏

والبيداء مكان معروف بين مكة والمدينة تقدم شرحه في كتاب الحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخسف بأولهم وآخرهم‏)‏ زاد الترمذي في حديث صفية ‏"‏ ولم ينج أوسطهم ‏"‏ وزاد مسلم في حديث حفصة ‏"‏ فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم ‏"‏ واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط وأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك أو لكونه آخرا بالنسبة للأول وأولا بالنسبة للآخر فيدخل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفيهم أسواقهم‏)‏ كذا عند البخاري بالمهملة والقاف جمع سوق وعليه ترجم، والمعنى أهل أسواقهم أو السوقة منهم‏.‏

وقوله ‏"‏ومن ليس منهم ‏"‏ أي من رافقهم ولم يقصد موافقتهم‏.‏

ولأبي نعيم من طريق سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا ‏"‏ وفيهم أشرافهم ‏"‏ بالمعجمة والراء والفاء‏.‏

وفي رواية محمد ابن بكار عند الإسماعيلي ‏"‏ وفيهم سواهم ‏"‏ وقال وقع في رواية البخاري ‏"‏ أسواقهم ‏"‏ فأظنه تصحيفا فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق‏.‏

قلت‏:‏ بل لفظ ‏"‏ سواهم ‏"‏ تصحيف فإنه بمعنى قوله ومن ليس منهم فيلزم منه التكرار، بخلاف رواية البخاري‏.‏

نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ ‏"‏ أسواقهم ‏"‏ ما يمنع أن يكون الخسف بالناس فالمراد بالأسواق أهلها أي يخسف بالمقاتلة منهم ومن ليس من أهل القتال كالباعة‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ فقلنا إن الطريق يجمع الناس، قال نعم فيهم المستبصر - أي المستبين لذلك القاصد للمقاتلة - والمجبور بالجيم والموحدة - أي المكره - وابن السبيل - أي - مالك الطريق معهم وليس منهم ‏"‏ والغرض كله أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فوقع الجواب بأن العذاب يقع عاما لحضور آجالهم ويبعثون بعد ذلك على نياتهم‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى ‏"‏ وفي حديث أم سلمة عند مسلم ‏"‏ فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها‏؟‏ قال‏:‏ يخسف به، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته ‏"‏ أي يخسف بالجميع لشؤم الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، قال المهلب‏:‏ في هذا الحديث أن من كثر سواد قوم في المعصية مختارا أن العقوبة تلزمه معهم‏.‏

قال واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر وإن لم يشرب، وتعقبه ابن المنير بأن العقوبة التي في الحديث هي الهجمة السماوية فلا يقاس عليها العقوبات الشرعية، ويؤيده آخر الحديث حيث قال ‏"‏ ويبعثون على نياتهم ‏"‏ وفي هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل، والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر إلى ذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي من ضرورة البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته‏.‏

وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون هذا الجيش الذي يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة فينتقم منهم فيخسف بهم، وتعقب بأن في بعض طرقه عند مسلم ‏"‏ إن ناسا من أمتي ‏"‏ والذين شهدونها من كفار الحبشة‏.‏

وأيضا فمقتضى كلامه أنهم يخسف بهم بعد أن يهدموها ويرجعوا، وظاهر الخبر أنه يخسف بهم قبل أن يصلوا إليها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ وَقَالَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة قد تقدم مستوفي في أبواب الجماعة‏.‏

والغرض منه ذكر السوق وجواز الصلاة فيه، وقوله ‏"‏لا ينهزه ‏"‏ بضم أوله وسكون النون وكسر الهاء بعدها زاي‏:‏ ينهضه وزنا ومعنى، والمراد لا يزعجه، والجملة بيان للجملة التي قبلها وهي ‏"‏ لا يريد إلا الصلاة ‏"‏ وقوله ‏"‏ اللهم صل عليه ‏"‏ بيان لقوله يصلي عليه أي يقول اللهم صل عليه، وقوله ‏"‏ما لم يؤذ فيه‏"‏، أي يحصل منه أذى للملائكة أو لمسلم بالفعل أو بالقول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي

الشرح‏:‏

حديث أنس في سبب قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ‏"‏ أورده من طريقين عن حميد عنه وسيأتي في كتاب الاستئذان، والغرض منه هنا قوله في أول الطريق الأولى ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق ‏"‏ وفائدة إيراده الطريق الثانية قوله فيها إنه كان بالبقيع، فأشار إلى أن المراد بالسوق في الرواية الأولى السوق الذي كان بالبقيع، وقد قال سبحانه وتعالى ‏(‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله‏)‏ بالتصغير، في رواية مسلم عن أحمد بن حنبل عن سفيان ‏"‏ حدثني عبيد الله ‏"‏ ولكنه أورده مختصرا جدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن نافع بن جبير‏)‏ هو المذكور في الحديث الأول، وليس له أيضا عن أبي هريرة في البخاري سوى هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في طائفة من النهار‏)‏ أي في قطعة منه، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات ‏"‏ طائفة ‏"‏ بالصاد المهملة بدل طائفة أي في حر النهار، يقال يوم صائف أي حار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يكلمني ولا أكلمه‏)‏ أما من جانب النبي صلى الله عليه وسلم فلعله كان مشغول الفكر بوحي أو غيره، وأما من جانب أبي هريرة فللتوقير، وكان ذلك من شأن الصحابة إذا لم يروا منه نشاطا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة فقال‏)‏ هكذا في نسخ البخاري، قال الداودي‏:‏ سقط بعض الحديث عن الناقل، أو أدخل حديثا في حديث، لأن بيت فاطمة ليس في سوق بني قينقاع‏.‏

انتهى‏.‏

وما ذكره أولا احتمالا هو الواقع، ولم يدخل للراوي حديث في حديث، وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان فأثبت ما سقط منه ولفظه ‏"‏ حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى فناء فاطمة ‏"‏ وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان، وأخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان فقال فيه ‏"‏ حتى أتى فناء عائشة فجلس فيه ‏"‏ والأول أرجح، والفناء بكسر الفاء بعدها نون ممدودة أي الموضع المتسع أمام البيت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أثم لكع‏)‏ بهمزة الاستفهام بعدها مثلثة مفتوحة، ولكع بضم اللام وفتح الكاف، قال الخطابي‏:‏ اللكع على معنيين أحدهما الصغير والآخر اللئيم، والمراد هنا الأول، والمراد بالثاني ما ورد في حديث أبي هريرة أيضا ‏"‏ يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع ‏"‏ وقال ابن التين‏:‏ زاد ابن فارس أن العبد أيضا يقال له لكع‏.‏

انتهى‏.‏

ولعل من أطلقه على العبد أراد أحد الأمرين المذكورين‏.‏

وقال بلال بن جرير التميمي‏:‏ اللكع في لغتنا الصغير، وأصله في المهر ونحوه‏.‏

وعن الأصمعي‏:‏ اللكع الذي لا يهتدي لمنطق ولا غيره، مأخوذ من الملاكيع وهي التي تخرج من السلا‏.‏

قال الأزهري‏:‏ وهذا القول أرجح الأقوال هنا، لأنه أراد أن الحسن صغير لا يهتدي لمنطق، ولم يرد أنه لئيم ولا عبد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحبسته شيئا‏)‏ أي منعته من المبادرة إلى الخروج إليه قليلا، والفاعل فاطمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فظننت أنها تلبسه سخايا‏)‏ بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وبموحدة، قال الخطابي‏:‏ هي قلادة تتخذ من طيب ليس فيها ذهب ولا فضة‏.‏

وقال الداودي من قرنفل‏.‏

وقال الهروي هو خيط من خرز يلبسه الصبيان والجواري، وروى الإسماعيلي عن ابن أبي عمر أحد رواة هذا الحديث قال‏:‏ السخاب شيء يعمل من الحنظل كالقميص والوشاح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو تغسله‏)‏ في رواية الحميدي وتغسله بالواو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاء يشتد‏)‏ أي يسرع في المشي، في رواية عمر بن موسى عند الإسماعيلي ‏"‏ فجاء الحسن ‏"‏ وفي رواية ابن أبي عمر عند الإسماعيلي ‏"‏ فجاء الحسن أو الحسين ‏"‏ وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر فقال في روايته ‏"‏ أثم لكع‏؟‏ يعني حسنا ‏"‏ وكذا قال الحميدي في مسنده، وسيأتي في اللباس من طريق ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ ‏"‏ فقال أين لكع، ادع الحسن بن علي، فقال الحسن بن علي يمشي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاء يشتد حتى عاتقه وقبله‏)‏ في رواية ورقاء ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده هكذا‏.‏

أي مدها‏.‏

فقال الحسن بيده هكذا فالتزمه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال اللهم أحبه‏)‏ بفتح أوله بلفظ الدعاء‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ أحببه ‏"‏ بفك الإدغام، زاد مسلم عن ابن أبي عمر ‏"‏ فقال‏:‏ اللهم إني أحبه فأحبه‏"‏‏.‏

وفي الحديث بيان ما كان الصحابة عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم والمشي معه، وما كان عليه من التواضع من الدخول في السوق والجلوس بفناء الدار، ورحمة الصغير والمزاح معه ومعانقته وتقبيله، ومنقبة للحسن بن علي، وسيأتي الكلام عليها في مناقبه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان‏)‏ هو ابن عيينة، وهو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبيد الله أخبرني‏)‏ فيه تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وعبيد الله هو شيخ سفيان في الحديث المذكور، وأراد البخاري بإيراد هذه الزيادة بيان لفي عبيد الله لنافع بن جبير فلا تضر العنعنة في الطريق الموصولة لأن من ليس بمدلس إذا ثبت لقاؤه لمن حدث عنه حملت عنعنته على السماع اتفاقا، وإنما الخلاف في المدلس أو فيمن لم يثبت لقيه لمن روي عنه‏.‏

وأبعد الكرماني فقال‏:‏ إنما ذكر الوتر هنا لأنه لما روي الحديث الموصول عن نافع بن جبير انتهز الفرصة لبيان ما ثبت في الوتر مما اختلف في جوازه، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ قَالَ وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في نقل الطعام من المكان الذي يشتري منه إلى حيث يباع الطعام وفيه حديثه في النهي عن بيع الطعام حتى يستوفيه وسيأتي الكلام عليهما بعد أربعة أبواب‏.‏

وقد استشكل إدخال هذا الحديث في باب الأسواق، وأجيب بأن السوق اسم لكل مكان وقع فيه التبايع بين من يتعاطى البيع، فلا يختص الحكم المذكور بالمكان المعروف بالسوق بل يعم كل مكان يقع فيه التبايع، فالعموم في قوله في الحديث ‏"‏ حيث يباع الطعام‏"‏‏.‏

*3*باب كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كراهية السخب في الأسواق‏)‏ بفتح المهملة والخاء المعجمة بعدها موحدة، ويقال فيه الصخب بالصاد المهملة بدل السين، وهو رفع الصوت بالخصام، وقد تقدم ذكره في الكلام على حديث أبي سفيان في قصة هرقل في أول الكتاب‏.‏

وأخذت الكراهة من نفي الصفة المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت عنه صفة الفظاظة والغلظة‏.‏

وأورد المصنف فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والغرض منه قوله فيه ‏"‏ ولا سخاب في الأسواق ‏"‏ وسيأتي الكلام على شرحه مستوفي في تفسير سورة الفتح، ويستفاد منه أن دخول الإمام الأعظم السوق لا يحط من مرتبته لأن النفي إنما ورد في ذم السخب فيها لا عن أصل الدخول‏.‏

وهلال المذكور في إسناده هو ابن علي، ويقال له هلال بن أبي هلال، وليس لشيخه عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو في الصحيح غير هذا الحديث، وقوله فيه ‏"‏ وحرزا ‏"‏ بكسر المهملة أي حافظا، وأصل الحرز الموضع الحصين، وهو استعارة‏.‏

وقوله ‏"‏حتى يقيم به الملة العوجاء ‏"‏ أي ملة العرب، ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام، والمراد بإقامتها أن يخرج أهلها من الكفر إلى الإيمان‏.‏

وقوله ‏"‏وقلوب غلف ‏"‏ وقع في رواية النسفي والمستملي ‏"‏ قال أبو عبد الله يعني المصنف‏:‏ الغلف كل شيء في غلاف، يقال سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف إذا لم يكن مختونا ‏"‏ انتهى‏.‏

وهو كلام أبي عبيدة في ‏"‏ كتاب المجاز‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ سَلَامٍ غُلْفٌ كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلَافٍ سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال‏)‏ ستأتي هذه المتابعة موصولة في تفسير سورة الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام‏)‏ سعيد هو ابن أبي هلال، وقد خالف عبد العزيز وفليحا في تعيين الصحابي، وطريقه هذه وصلها الدارمي في مسنده ويعقوب بن سفيان في تاريخه والطبراني جميعا بإسناد واحد عنه، ولا مانع أن يكون عطاء بن يسار حمله عن كل منهما، فقد أخرجه ابن سعد من طريق زيد بن أسلم قال ‏"‏ بلغنا أن عبد الله بن سلام كان يقول ‏"‏ فذكره‏.‏

وأظن المبلغ لزيد هو عطاء بن يسار فإنه معروف بالرواية عنه فيكون هذا شاهدا لرواية سعيد بن أبي هلال والله أعلم‏.‏

وسأذكر لرواية عبد الله بن سلام متابعات في تفسير سورة الفتح‏.‏

ومما جاء عنه في ذلك مجملا ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال ‏"‏ مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم يدفن معه‏"‏‏.‏

*3*باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ يَسْمَعُونَكُمْ يَسْمَعُونَ لَكُمْ

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكيل على البائع والمعطى‏)‏ أي مؤنة الكيل على المعطى بائعا كان أو موفى دين أو غير ذلك‏.‏

ويلتحق بالكيل في ذلك الوزن فيما يوزن من السلع وهو قول فقهاء الأمصار، وكذلك مؤنة وزن الثمن على المشتري إلا نقد الثمن فهو على البائع على الأصح عند الشافعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل ‏(‏وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏)‏ يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ وبه جزم الفراء وغيره، وخالفهم عيسى بن عمر فكان يقف على كالوا وعلى وزنوا ثم يقول هم‏.‏

وزيفه الطبري، والجمهور أعربوه على حذف الجار ووصل الفعل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون على حذف المضاف وهو المكيل مثلا أي كالوا مكيلهم وقوله كقوله يسمعونكم أى يسمعون لكم‏.‏

ومعنى الترجمة أن المرء يكيل له غيره إذا اشترى ويكيل هو إذا باع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكتالوا حتى تستوفوا‏)‏ هذا طرف من حديث وصله النسائي وابن حبان من حديث طارق بن عبد الله المحاربي قال ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فلما أظهر الله الإسلام خرجنا إلى المدينة، فبينا نحن قعود إذ أتى رجل عليه ثوبان ومعنا جمل أحمر فقال‏:‏ أتبيعون الجمل‏؟‏ قلنا نعم، فقال بكم‏؟‏ قلنا بكذا وكذا صاعا من تمر، قال‏:‏ قد أخذت، فأخذ بخطام الجمل ثم ذهب حتى توارى، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال أنا رسول رسول الله إليكم وهو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا ففعلنا، ثم قدمنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

ومطابقته للترجمة أن الاكتيال يستعمل لما يأخذه المرء لنفسه كما يقال اشتوى إذا اتخذ الشواء واكتسب إذا حصل الكسب، ويفسر ذلك حديث عثمان المذكور بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل‏)‏ وصله الدار قطني من طريق عبيد الله بن المغيرة المصري عن منقذ مولى ابن سراقة عن عثمان بهذا، ومنقذ مجهول الحال، لكن له طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجة والبزار من طريق موسى بن وردان عن سعيد ابن المسيب عن عثمان به، وفيه ابن لهيعة ولكنه من قديم حديثه‏.‏

لأن ابن عبد الحكم أورده في ‏"‏ فتوح مصر ‏"‏ من طريق الليث عنه، وأشار ابن التين إلى أنه لا يطابق الترجمة قال‏:‏ لأن معنى قوله ‏"‏ إذا بعت فكل ‏"‏ أى فأوف ‏"‏ وإذا ابتعت فاكتل ‏"‏ أي فاستوف، قال والمعنى أنه إذا أعطى أو أخذ لا يزيد ولا ينقص، أي لا لك ولا عليك انتهى‏.‏

لكن في طريق الليث زيادة تساعد ما أشار إليه البخاري ولفظه ‏"‏ إن عثمان قال‏:‏ كنت أشتري التمر من سوق بني قينقاع ثم أجلبه إلى المدينة ثم أفرغه لهم وأخبرهم بما فيه من المكيلة فيعطوني ما رضيت به من الربح فيأخذونه ويأخذونه بخبري‏.‏

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال، فظهر أن المراد بذلك تعاطى الكيل حقيقة لا خصوص طلب عدم الزيادة والنقصان، وله شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الحكم قال ‏"‏ قدم لعثمان طعام ‏"‏ فذكر نحوه بمعناه‏.‏

ثم أورد المصنف حديث ابن عمر ‏"‏ من باع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب، وحديث جابر في قصة دين أبيه، وسيأتي الكلام عليه وعلى ما اختلف من ألفاظه وطرقه في ‏"‏ علامات النبوة ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏:‏ والغرض منه قوله فيه ‏"‏ ثم قال كل القوم ‏"‏ فإنه مطابق لقوله في الترجمة ‏"‏ الكيل على المعطى‏"‏‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ صنف تمرك أصنافا ‏"‏ أي اعزل كل صنف منه وحده، وقوله فيه ‏"‏ وعذق ابن زيد ‏"‏ العذق بفتح العين النخلة وبكسرها العرجون والذال فيهما معجمة، وابن زيد شخص نسب إليه النوع المذكور من التمر‏.‏

وأصناف تمر المدينة كثيرة جدا، فقد ذكر الشيخ أبو محمد الجويني في ‏"‏ الفروق ‏"‏ أنه كان بالمدينة فبلغه أنهم عدوا عند أميرها صنوف التمر الأسود خاصة فزادت على الستين، قال‏:‏ والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ فَطَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلَاهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ كِلْ لِلْقَوْمِ فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَالَ فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال فراس عن الشعبي الخ‏)‏ هو طرف من الحديث المذكور، وصله المؤلف في آخر أبواب الوصايا بتمامه وفيه اللفظ المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال هشام عن وهب عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم جذ له فأوف له‏)‏ وهذا أيضا طرف من حديثه المذكور، وقد وصله المؤلف في الاستقراض بتمامه، وهشام المذكور هو ابن عروة، ووهب هو ابن كيسان‏.‏

وقوله ‏"‏جذ ‏"‏ بلفظ الأمر من الجذاذ بالجيم والذال المعجمة وهو قطع العراجين، وبين في هذه الطريق قدر الدين وقدر الذي فضل بعد وفائه، وقد تضمن قوله ‏"‏ فأوف له ‏"‏ معنى قوله ‏"‏ كل للقوم‏"‏‏.‏

*3*باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يستحب من الكيل‏)‏ أي في المبايعات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الوليد‏)‏ هو ابن مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ثور‏)‏ هو ابن يزيد الدمشقي‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي من طريق دحيم ‏"‏ عن الوليد حدثنا ثور‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب‏)‏ هكذا رواه الوليد وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور، وهكذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن ثور أخرجه أحمد عنه وتابعه يحيى بن سعد عن خالد بن معدان، وخالفهم أبو الربيع الزهراني عن ابن المبارك فأدخل بين خالد والمقدام جبير بن نفير أخرجه الإسماعيلي أيضا، وروايته من المزيد في متصل الأسانيد‏.‏

ووقع في رواية إسماعيل بن عياش عند الطبراني ونفيه عنده وعند ابن ماجة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام عن أبي أيوب الأنصاري زاد فيه أبا أيوب، وأشار الدار قطني إلى رجحان هذه الزيادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبارك لكم‏)‏ كذا في جميع روايات البخاري، ورواه أكثر من تقدم ذكره فزادوا في آخره ‏"‏ فيه‏"‏‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، ومعنى الحديث أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ليس بين هذا الحديث وحديث عائشة ‏"‏ كان عندي شطر شعير آكل منه حتى طال على فكلته ففني ‏"‏ يعني الحديث الآتي ذكره في الرقاق معارضة، لأن معنى حديث عائشة أنها كانت تخرج قوتها - وهو شيء يسير - بغير كيل فبورك لها فيه مع بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كالته علمت المدة التي يبلغ إليها عند انقضائها ا هـ‏.‏

وهو صرف لما يتبادر إلى الذهن من معنى البركة، وقد وقع في حديث عائشة المذكور عند ابن حبان ‏"‏ فما زلنا نأكل منه حتى كالته الجارية فلم نلبث أن فني، ولو لم تكله لرجوت أن يبقى أكثر ‏"‏ وقال المحب الطبري‏:‏ لما أمرت عائشة بكيل الطعام ناظرة إلى مقتضى العادة غافلة عن طلب البركة في تلك الحالة ردت إلى مقتضى العادة ا هـ‏.‏

والذي يظهر لي أن حديث المقدام محمول على الطعام الذي يشتري، فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان، وحديث عائشة محمول على أنها كالته للاختبار فلذلك دخله النقص، وهو شبيه بقول أبي رافع لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة ‏"‏ ناولني الذراع، قال وهل للشاة إلا ذراعان فقال‏:‏ لو لم تقل هذا لناولتني ما دمت أطلب منك ‏"‏ فخرج من شؤم المعارضة انتزاع البركة، ويشهد لما قلته حديث ‏"‏ لا تحصى فيحصى الله عليك ‏"‏ الآتي‏.‏

والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، ولا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة والاختبار والله أعلم‏.‏

ويحتمل أن يكون معنى قوله ‏"‏ كيلوا طعامكم ‏"‏ أي إذا ادخرتموه طالبين من الله البركة واثقين بالإجابة، فكان من كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره فيكون ذلك شكا في الإجابة فيعاقب بسرعة نفاده، قاله المحب الطبري‏.‏

ويحتمل أن تكون البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم لأنه إذا أخرج بغير حساب قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر فيتهم من يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئا، وإذا كاله أمن من ذلك والله أعلم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن في ‏"‏ مسند البزار ‏"‏ أن المراد بكيل الطعام تصغير الأرغفة، ولم أتحقق ذلك ولا خلافه‏.‏

*3*باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدِّهِ

فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده‏)‏ في رواية النسفي ‏"‏ ومدهم ‏"‏ بصيغة الجمع كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وبه جزم الإسماعيلي وأبو نعيم، والضمير يعود للمحذوف في صاع النبي أي صاع أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ومدهم‏.‏

ويحتمل أن يكون الجمع لإرادة التعظيم، وشرح ابن بطال على الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يشير إلى ما أخرجه موصولا من حديثها في آخر الحج عنها قالت ‏"‏ وعك أبو بكر وبلال - الحديث وفيه - اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام لِمَكَّةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا موسى‏)‏ هو ابن إسماعيل، وقد تقدم الكلام على ما تضمنه حديث عبد الله بن زيد وهو ابن عاصم المذكور هنا في أواخر الحج، وكذا حديث أنس وسيعاد في كتاب الاعتصام‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ إيراد المصنف هذه الترجمة عقب التي قبلها يشعر بأن البركة المذكورة في حديث المقدام مقيدة بما إذا وقع الكيل بمد النبي صلى الله عليه وسلم وصاعه، ويحتمل أن يتعدى ذلك إلى ما كان موافقا لهما لا إلى ما يخالفهما‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة‏)‏ أي بضم المهملة وسكون الكاف‏:‏ حبس السلع عن البيع، هذا مقتضى اللغة، وليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر كما قال الإسماعيلي، وكأن المصنف استنبط ذلك من الأمر بنقل الطعام إلى الرحال ومنع بيع الطعام قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حراما لم يأمر بما يئول إليه، وكأنه لم يثبت عنده حديث معمر بن عبد الله مرفوعا ‏"‏ لا يحتكر إلا خاطئ ‏"‏ أخرجه مسلم، لكن لمجرد إيواء الطعام إلى الرحال لا يستلزم الاحتكار الشرعي، لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع استغناء عنه وحاجة الناس إليه، وبهذا فسره مالك عن أبي الزناد عن سعيد ابن المسيب‏.‏

وقال مالك فيمن رفع طعاما من ضيعته إلى بيته‏:‏ ليست هذه بحكرة‏.‏

وعن أحمد إنما يحرم احتكار الطعام المقتات دون غيره من الأشياء‏.‏

ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحكرة التي نهى عنها في غير هذا الحديث وأن المراد بها قدر زائد على ما يفسره أهل اللغة، فساق الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعا لمنعوا من نقله، أو لبين لهم عند نقله الأمد الذي ينتهون إليه، أو لأخذ على أيديهم من شراء الشيء الكثير الذي هو مظنة الاحتكار، وكل ذلك مشعر بأن الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة‏.‏

وقد ورد في ذم الاحتكار أحاديث‏:‏ منها حديث معمر المذكور أولا وحديث عمر مرفوعا ‏"‏ من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس ‏"‏ رواه ابن ماجة وإسناده حسن، وعنه مرفوعا قال ‏"‏ الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ‏"‏ أخرجه ابن ماجة والحاكم وإسناده ضعيف، وعن ابن عمر مرفوعا ‏"‏ من احتكر طماعا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ منه ‏"‏ أخرجه أحمد والحاكم وفي إسناده مقال، وعن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ من احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ ‏"‏ أخرجه الحاكم‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في تأديب من يبيع الطعام قبل أن يؤويه إلى رحله، وسيأتي الكلام عليه بعد باب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ قَالَ ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ مُرْجَئُونَ مُؤَخَّرُونَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفي، وسيأتي الكلام عليهما في الباب الذي يليه‏.‏

قوله في آخر حديث ابن عباس ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ أي المصنف ‏(‏مرجئون‏)‏ أي مؤرخون، وهذا في رواية المستملي وحده، وهو موافق لتفسير أبي عبيدة حيث قال في قوله‏:‏ ‏(‏وآخرون مرجئون لأمر الله‏)‏ أي مؤخرون لأمر الله، يقال أرجأتك أي أخرتك، وأراد به البخاري شرح قول ابن عباس ‏"‏ والطعام مرجأ ‏"‏ أي مؤخر، ويجوز همز مرجأ وترك همزه، ووقع في كتاب الخطابي بتشديد الجيم بغير همز وهو للمبالغة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ

الشرح‏:‏

حديث وابن عمر في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفي، وسيأتي الكلام عليهما في الباب الذي يليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ فَقَالَ طَلْحَةُ أَنَا حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنْ الْغَابَةِ قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَقَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ

الشرح‏:‏

حديث عمر ‏"‏ الذهب بالورق ربا ‏"‏ ومطابقته للترجمة لما فيه من اشتراط قبض الشعير وغيره من الربويات في المجلس فإنه داخل في قبض الطعام بغير شرط آخر‏.‏

وقد استشعر ابن بطال مباينته للترجمة فأدخله في ترجمة ‏"‏ باب بيع ما ليس عندك ‏"‏ وهو مغاير للنسخ المروية عن البخاري‏.‏

وقوله في حديث عمر ‏"‏ حدثنا علي ‏"‏ هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقوله ‏"‏كان عمرو بن دينار يحدث عن الزهري عن مالك بن أوس أنه قال‏:‏ من عنده صرف‏؟‏ فقال طلحة - أي ابن عبيد الله - أنا حتى يجيء خازننا من الغابة ‏"‏ تأتى بقيته في رواية مالك عن الزهري بعد نيف وعشرين بابا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان‏)‏ هو ابن عيينة بالإسناد المذكور، وقوله ‏"‏هذا الذي حفظناه من الزهري ليس فيه زيادة ‏"‏ أشار إلى القصة المذكورة وأنه حفظ من الزهري المتن بغير زيادة، وقد حفظها مالك وغيره عن الزهري، وأبعد الكرماني فقال‏:‏ غرض سفيان تصديق عمرو وأنه حفظ نظير ما روي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذهب بالورق‏)‏ هكذا رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه وهي رواية أكثر أصحاب الزهري‏.‏

وقال بعضهم فيه الذهب بالذهب كما سيأتي شرحه في المكان المذكور إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك‏)‏ لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك، وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض‏.‏

ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ ‏"‏ قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه ثم ابتاعه له من السوق‏؟‏ فقال‏:‏ لا تبع ما ليس عندك ‏"‏ وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه ‏"‏ نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي ‏"‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما أن يقول‏:‏ أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما أن يقول‏:‏ هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها ا هـ‏.‏

وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو ابن عيينة، وقوله ‏"‏الذي حفظناه من عمرو ‏"‏ كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه، كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي وجوابه وغير ذلك‏.‏

قوله عن ابن عباس ‏(‏أما الذي نهى عنه الخ‏)‏ أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهو الطعام أن يباع حتى يقبض‏)‏ في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس ‏"‏ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ‏"‏ قال مسعر‏:‏ وأظنه قال ‏"‏ أو علفا ‏"‏ وهو بفتح المهملة واللام والفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله‏)‏ ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه ‏"‏ وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام ‏"‏ وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال‏:‏ فالبيع كذلك‏.‏

وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق‏.‏

وقول طاوس في الباب قبله ‏"‏ قلت لابن عباس كيف ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ذاك دراهم بدارهم والطعام مرجأ ‏"‏ معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدارهم‏.‏

ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم ‏"‏ قال طاوس قلت لابن عباس‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ ‏"‏ أي فإذا اشترى طعاما بمائه دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس ‏"‏ لا أحسب كل شيء إلا مثله ‏"‏ ويؤيده حديث زيد بن ثابت ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ‏"‏ أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي‏:‏ هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشتري، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر وقال ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ‏"‏ أخرجه الترمذي‏.‏

قلت‏:‏ وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة‏.‏

وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل‏:‏ فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ زَادَ إِسْمَاعِيلُ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ

الشرح‏:‏

قوله عقب حديث ابن عمر ‏(‏زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه‏)‏ يعني أن إسماعيل ابن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ ‏"‏ حتى يقبضه ‏"‏ بدل قوله ‏"‏ حتى يستوفيه ‏"‏ وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة قلت‏:‏ وقول البخاري ‏"‏ زاد إسماعيل ‏"‏ يريد الزيادة في المعنى، لأن في قوله حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله ‏"‏ حتى يستوفيه ‏"‏ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري بل يحبسه عنده لينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال‏:‏ ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال‏:‏ معناه زاد لفظا آخر وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به كما تقدم نقله عن الشافعي، وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية‏.‏

*3*باب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالْأَدَبِ فِي ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك‏)‏ أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله‏.‏

ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود‏.‏

وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر ‏"‏ كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه ‏"‏ وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل‏:‏ فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مربى فتكفى فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا ‏"‏ من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه ‏"‏ ورواه أبو داود والنسائي بلفظ ‏"‏ نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه ‏"‏ والدار قطني من حديث جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري ‏"‏ ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور‏.‏

وقال عطاء‏:‏ يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه‏.‏

وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعى أحوالهم في ذلك والله أعلم‏.‏

وقوله ‏"‏جزافا ‏"‏ مثلثة الجيم والكسر أفصح‏.‏

وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة، فلو علم لم يصح‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها قبضها‏.‏